عرض كتاب “قصة مكتبة”

كتبه:محمد سيد بركة

متابعة: د. محمد علي عطا

يحكي كتاب قصة مكتبة.. خمسون عاماً في صحبة الكتب والمكتبات في الوطن العربي وخارجه د. عبد الله بن عبد الرحيم عسيلان مجموعة قصص تحت عنوان قصة واحدة، إذ يرصد الكتاب أحاديث خمسة عقود لعسيلان مع الكتب عبر المكتبات، ومن خلال المكتبات.
يخبرنا مؤلّف قصة مكتبة في الفصل الأول من كتابه بداية الطريق كيف وقع في حبِّ الكتاب أول مرّة يقول :
كانت امرأة تناهز الستين… كانت تزور والدتي بحكم الجوار، وفي أول زيارة شدّتنا إليها بطيبة نفسها، وبراعة أحاديثها فهي تحكي لنا قصصاً مشوِّقة… وفضول الصغار دفعني إلى أن أسألها: من أين تأتين بهذه القصص؟ فقالت لي: يا ابني! هذه قصص وحكايات كنتُ أسمعها من والدتي في بلادي فلسطين، وكانت تخبرني أن والدها كان يقرأ علينا هذه القصص من كتاب اسمه ألف ليلة وليلة… كنتُ قد انتقلتُ في الدراسة إلى المرحلة الإعدادية في المدينة المنورة… وكان الذي يدرّسنا اللغة العربية أستاذ مصري… وتحيّنت الفرصة، فتوجهت إليه بالسؤال عن ألف ليلة وليلة… وسألته عن مكان وجودها، فأخبرني أنها في بعض المكتبات المجاورة للمسجد النبوي.وفي مساء اليوم نفسه ذهبتُ أبحث عنها، فوجدتها… وبادرتُ بلهفة في قراءة الجزء الأول منها….
كما يخصِّص الدكتور عبد الله بن عبد الرحيم عسيلان فصلاً بعنوان عشاق الكتب، يفتتحه بعبارات جميلة الشكل عميقة المضمون ساحرة الأسلوب، تنمّ عن عشقه هو للكتاب. يقول:
الكتاب مصدر إشعاعٍ لنور المعرفة، يستنير به المدلجون في ظُلمات الجهل. الكتاب منبع يتدفق في مسارب العطشى، برشفاتْ تُطفئ أُوار الظمأ في النفوس المتعطشة من ماء المعرفة العذب الزُّلال. الكتاب روضة غنّاء مكسوَّة بأزاهير العلم وثمار المعرفة….
ولكنه يحذرنا من عدم التمييز بين العشاق الحقيقيين والعشاق المزيفين الذين يتظاهرون بالعشق، وليس لهم من لذة العشق الحقيقي نصيب؛ فهم يقتنون الكتب ليستكملوا بها تأثيث منازلهم الفاخرة والتباهي بها. وقد لا يعرفون حتى عناوين تلك الكتب أو مجالاتها المعرفية.
ويستفيض عسيلان في سرد أوصاف المحبوب وحسنه وحسناته، كما يحصل للعاشق عندما يتحدّث عن جمال الحبيبة ورونقها وبهائها، فيسهب في وصف وجهها الصبوح، وعينيها الهدباوين الناعستين، وشفتيها المتوردتين، ونحرها العاجي الطويل… إلخ… إلخ.
ولا تقتصر أفواج عشّاق الكتاب على العاملين في مهنة صناعة الكتاب وإنتاجه، بل أكثرهم من قرائه ومحبيه، الذين يقبلون عليه ويستأثرون به. ويتوقّع الإنسان وجود منافسة بينهم، فليس هنالك حب دون أن يحرّك عاطفة الغيرة لدى العاشق مهما كان كريماً متسامحاً، وذلك طبقاً للقاعدة التي صاغها شعراً الشاعر السوري البرازيلي رشيد سليم خوري (ت 1404هـ/ 1984م):
إني كريمٌ أُحب المال مشتركاً
لكن غيورٌ أحب الحُسن مُحتَكَرا
ولكننا لا نلمس أيَّ دليلٍ على غيرة أو تضايقه من عشّاق الكتاب الآخرين؛
ويتحدّث عسيلان عن عشّاق الكتاب بكل أريحية، ويسدي إليهم عبارات الثناء والتقدير. فيقول مثلاً عن أكبر هؤلاء العشاق وأشهرهم في الأدب، أبي عمرو الجاحظ، الذي كان يكتري دكاكين الوراقين فيمضي الليل كله في مسامرة حبيبه الكتاب:
ومَن منّا لا يذكر رائعة الجاحظ، معلم الأدب والعقل، وعاشق الكتب، وهو يصف الكتاب بقوله: (الكتاب نِعمَ الذخر والقُعدة، ونِعمَ الجليس والعُدَّة، ونعم المُشتغَل والحرفة، ونعم الأنيس لساعة الوحدة، ونعم المعرفة ببلاد الغربة، ونعم القرين والدخيل، ونعم الوزير والنزيل.
الكتاب وعاءٌ مُليء عِلماً، وظرفٌ حُشِيَ طَرفاً، وإناءٌ شُحنَ مزاحاً وجداً…).
الجاحظ الذي لفظ أنفاسه الأخيرة وهو يعانق كتبه ويتدثر بها، بعد أن سقط عليه صفٌّ منها وهو يقرأ في مكتبته في آخر حياته وأردته ميتاً.
ويتعاطف عسيلان مع عشاق الكتب الذين يضحّون بالغالي والنفيس من أجل المحبوب، فيذكر لنا أن العالم الأديب عبد الله المبارك (ت 528هـ) باع مِلكاً له ليشتري بثمنه كتاب الفنون لابن عقيل، وأن أبا زُرعة الرازي باع ثوبين عنده واشترى بثمنهما ورقاً لنسخ كتب الشافعي. ويبدو أن سرَّ تعاطفه مع هؤلاء العشاق كونه يتفهّم ما يجيش في صدورهم من حبٍّ طاغ، فهو نفسه باع وهو فتى ساعته الأثيرة ليشتري بثمنها كتباً.
ولا يتضايق المؤلف من وجود أولئك العاشقين الذين ينافسونه على التفاني في حبّ الكتاب، ولا تزعجه كثرتهم ولا شهرتهم، بل يرشدنا إلى كتاب عشاق الكتب من إعداد الشيخ عبد الرحمن يوسف الفرحان الذي أجاد في رصد الأخبار المتعلقة بالكتب وعشاقها.
يرى عسيلان أن حبُّ الكتاب والأدب يخلق آصرة نسب بين المحبّين كما قال أبو بكر الصولي (ت-335 هـ):
إن الكتابة والآداب قد جعلت
بيني وبينك ـ يا زين الورى ـ نسبا
ويؤكد لنا الصولي أن الشبه سبب للمحبة بقوله:
أحببتُ من أجلهِ من كان يشبههُ
وكلُّ شيءٍ من المعشوقِ معشوقُ
كما يورد عسيلان بعض قصائد عشاق الكتب وأقوالهم المشهورة في إطراء الكتاب وحسناته، فيعرض علينا تلك الأقوال قديمها وحديثها، ومنها تلك الأبيات المشهورة لمحمد بن زياد الأعرابي -ت 230 هـ التي يعدّد فيها فضائل الكتاب وحسناته:
لنـا جُلساءٌ لا نمَلُّ حديثـهم
ألِبّاءُ مأمونون غيباً ومشهدا
يُفيدوننا من علمِهم علمَ ما مضى
وعقلاً وتأديباً ورأياً مسـدَّدا
ويذكِّرنا المؤلّف ببيت المتنبي المشهور الذي يصف فيه الإنسان الكامل بالقوة الجسدية الفائقة والمعرفة العلمية السامقة معاً:
أعزُّ مكانٍ في الدنا سرجُ سابحٍ
وخيرُ جليسٍ في الزمانِ كتابُ
ويعزز استشهاداته الشعرية من القدماء بأشعار من كبار الشعراء في العصر الحديث، فيدلي لنا، مثلاً، بأبيات من شيخِ شعراءِ الإحياءِ والبعث في تاريخ الشعر، إسماعيل صبري (ت 1923):
إن الكتاب إذا حلا وازدانا
نِعمَ السميرُ إذا أردتَ بيانا
يُهدي إليك فكاهةً وروايةً
ويصونُ سرّك إن أردتَ أمانا
ويأتي بأبيات لأمير الشعراء أحمد شوقي (ت 1932 م):
أنا مَن بدّلَ بالكُتبِ الصحابا
لم أجد لي وافياً إلا الكتـابا
صاحبٌ إن عِبتَهُ أو لم تَعبْ
ليس بالواجِدِ للصاحبِ عابا
لقد أمضى المؤلّف عسيلان جل حياته في البحث عن المخطوطة؛ لأن دراسة التراث العربي وتحقيقه من اختصاصاته. وتُقدَّر مخطوطات التراث العربي الإسلامي بحوالي خمسة ملايين مخطوطة، لم يُحقق منها إلا بضع مئات من الآلاف. وهي موزَّعة في مكتبات العالم. فكما أن ثروات الوطن العربي قد تناهبتها الأمم فإن كثيراً من مخطوطاته استولت عليها الدول الغربية بالنهب أو السرقة أو بالشراء بأبخس الأثمان من فقراء العرب الذين انتهت إليهم بعض هذه المخطوطات. وهكذا فقد سافر عسيلان إلى كثير من بلدان العالم بحثاً عن المحبوبة. ففي فصل رحلتي مع المخطوطات يخبرنا عن هذا البحث المحموم بلغة أدبية راقية، يقول:
وراح الشوق العارم يشدّني إليه، ويتزايد يوماً إثر يوم، عند كل ومضة نور تطوى في مسارب دروبي اللاهثة مُزعةً من بساط الظلمة، حتى أصل إلى كُنْه ما أتقلَّب في محيطه من عالم المخطوطات، ومع كل بارقة أمل تُشرق في نفسي أُحسُّ بالرغبة تتجدَّد، والشوق يزيد، وإذا بي في محيطٍ يتجاوز بي حدود الزمن، ويكشف لي عن حقيقة أمَّةٍ تتجسد في آثارها، وأجيالٍ تتجافى جنوبها عن المضاجع وهي ترصد ذاتها، وتُشيِّد صرح حضارتها، بما تقدِّمه من عُصارة عقولها وفكرها عبر العصور المتلاحقة….
ومن أجل ذلك قام برحلات عديدة، قادته إلى مصر، وسوريا، وتركيا، والمغرب، وتونس، والهند، وهولندا، وألمانيا، وإسبانيا، وإيرلندا، وغيرها. ولا ننسى أن مكتبات المدينة المنورة زاخرة بالمخطوطات النادرة، مثل مكتبة رباط مظهر، ومكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت التي كتب مقالاً عنها نشرته عام 1388 هـ/ 1968م مجلة العرب التي أسسها العلامة حمد الجاسر.
كما يحدثنا الدكتور عسيلان عن المكتبة المحمدية في مدينة مدراس بالهند التي تشتمل على ما يربو على ألفي مخطوط، ولكن لا يُنتفع بها؛ لأن القائمين على المكتبة يرون أن التصوير منها ربما يُخِلُّ بما يشعرون به من زهو لامتلاكها… ومن حيث لا يشعرون، يقتلون هذه المخطوطات ويئدونها….
إضافة إلى أن معظم مكتبات المخطوطات في البلدان الإسلامية غير مفهرسة فلا ينتفع منها؛ ولهذا فالمؤلف الذي شغل منصب عميد المكتبات في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية يقترح أن توجِّه الجامعات طلاب الدراسات العليا في المجالات ذات العلاقة بإعداد رسائلهم العلمية إلى صورة فهرسةٍ لمخطوطات مكتبة من المكتبات، فتكون الرسالة ذات منفعة، وهذا أفضل من كتابة رسائل جامعية، لا يُستفاد منها، وتظل قابعة في الرفوف المغبَّرة. ومعروف أن النفعية هي من شروط المعرفة في الإسلام لقول الرسول صلى الله عليه وسلم اللهم أعوذ بك من علمٍ لا ينفع، ومن قلبٍ لا يخشع، ومن عينٍ لا تدمع.
ويقارن المؤلِّف بين ما وجده من إهمال للمخطوطات في معظم البلدان الإسلامية والعناية بها في البلدان غير الإسلامية فيقول:
من ذلك – على سبيل المثال ـ أنني زرت مكتبة شيستربتي في إيرلندا، فوجدتها في مكان جميل جذاب أخاذ، في وسط حديقة غناء، وفي بناء قديم أثري. وجدتُ هذه المكتبة قد وُفِّرت فيها سبل الرعاية والعناية بهذه المخطوطات، من ترميم وصيانة وجوٍّ مناسب، ورأيت أنهم وضعوها في غرفة جُهزت وخصِّصت لها، وعليها باب كأنه باب إحدى الخزائن في البنوك، وفيها وسائل إطفاء الحريق الذاتي…
يقع الكتاب في 580 صفحة من القطع الكبير، وطبع طباعة أنيقة بورق صقيل وإخراج بديع، وصدر عن دار الثلوثية بالرياض لصاحبها الدكتور محمد المشوّح.

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
Notify of
guest
0 Comments
Inline Feedbacks
View all comments
Scroll to Top
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x